سورة الانشقاق - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الانشقاق)


        


{إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)}
قوله تعالى: {وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ} أي انصدعت، وتفطرت بالغمام، والغمام مثل السحاب الأبيض. وكذا روى أبو صالح عن ابن عباس.
وروى عن علي عليه السلام قال: تشق من المجرة. وقال: المجرة باب السماء. وهذا من أشراط الساعة وعلاماتها. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ} أي سمعت، وحق لها أن تسمع. روى معناه عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن» أي ما استمع الله لشيء قال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به *** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أي سمعوا.
وقال قعنب ابن أم صاحب:
إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا *** وما هم أذنوا من صالح دفنوا
وقيل: المعنى وحقق الله عليها الاستماع لأمره بالانشقاق.
وقال الضحاك: حقت: أطاعت، وحق لها أن تطيع ربها، لأنه خلقها، يقال: فلان محقوق بكذا. وطاعة السماء: بمعنى أنها لا تمتنع مما أراد الله بها، ولا يبعد خلق الحياة فيها حتى تطيع وتجيب.
وقال قتادة: حق لها أن تفعل ذلك، ومنه قول كثير:
فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا *** وحقت لها العتبى لدينا وقلت
قوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} أي بسطت ودكت جبالها. قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تمد مد الأديم» لان الأديم إذا مد زال كل انثناء فيه وامتد واستوى. قال ابن عباس وابن مسعود: ويزاد وسعتها كذا وكذا، لوقوف الخلائق عليها للحساب حتى لا يكون لاحد من البشر إلا موضع قدمه، لكثرة الخلائق فيها. وقد مضى في سورة إبراهيم أن الأرض تبدل بأرض أخرى وهي الساهرة في قول ابن عباس على ما تقدم عنه. {وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ} أي أخرجت أمواتها، وتخلت عنهم.
وقال ابن جبير: ألقت ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء.
وقيل: ألقت ما في بطنها من كنوزها ومعادنها، وتخلت منها. أي خلا جوفها، فليس في بطنها شي، وذلك يؤذن بعظم الامر، كما تلقى الحامل ما في بطنها عند الشدة.
وقيل: تخلت مما على ظهرها من جبالها وبحارها.
وقيل: ألقت ما استودعت، وتخلت مما استحفظت، لان الله تعالى استودعها عباده أحياء وأمواتا، وأستحفظها بلاده مزارعة وأقواتا. {وَأَذِنَتْ لِرَبِّها} أي في إلقاء موتاها {وَحُقَّتْ} أي وحق لها أن تسمع أمره. وأختلف في جواب إِذَا فقال الفراء: أَذِنَتْ. والواو زائدة، وكذلك وَأَلْقَتْ. ابن الأنباري: قال بعض المفسرين: جواب إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أَذِنَتْ، وزعم أن الواو مقحمة وهذا غلط، لان العرب لا تقحم الواو إلا مع حتى، وإذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها} [الزمر: 71] ومع لما كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنادَيْناهُ} [الصافات: 104- 103] معناه نادَيْناهُ والواو لا تقحم مع غير هذين.
وقيل: الجواب فاء مضمرة كأنه قال: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ ف يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ.
وقيل: جوابها ما دل عليه فَمُلاقِيهِ أي إذا السماء انشقت لاقى الإنسان كدحه.
وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ. قاله المبرد. وعنه أيضا: الجواب فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهو قول الكسائي، أي إذا السماء انشقت فمن أوتي كتابه بيمينه فحكمه كذا. قال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح ما قيل فيه وأحسنه. قيل: هو بمعنى اذكر إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.
وقيل: الجواب محذوف لعلم المخاطبين به، أي إذا كانت هذه الأشياء علم المكذبون بالبعث ضلالتهم وخسرانهم.
وقيل: تقدم منهم سؤال عن وقت القيامة، فقيل لهم: إذا ظهرت أشراطها كانت القيامة، فرأيتم عاقبة تكذيبكم بها. والقرآن كالآية الواحدة في دلالة البعض على البعض. وعن الحسن: إن قوله إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ قسم. والجمهور على خلاف قوله من أنه خبر وليس بقسم.


{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً} المراد بالإنسان الجنس أي يا ابن آدم. وكذا روى سعيد عن قتادة: يا ابن آدم، إن كدحك لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فليفعل ولا قوة إلا بالله.
وقيل: هو معين، قال مقاتل: يعني الأسود بن عبد الأسد. ويقال: يعني أبي بن خلف. ويقال: يعني جميع الكفار، أيها الكافر إنك كادح. والكدح في كلام العرب: العمل والكسب، قال ابن مقبل:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما *** أموت وأخرى أبتغى العيش أكدح
وقال آخر:
ومضت بشاشة كل عيش صالح *** وبقيت أكدح للحياة وأنصب
أي أعمل.
وروى الضحاك عن ابن عباس: إِنَّكَ كادِحٌ أي راجع إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي رجوعا لا محالة {فَمُلاقِيهِ} أي ملاق ربك.
وقيل: ملاق عملك. القتبي إِنَّكَ كادِحٌ أي عامل ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك. والملاقاة بمعنى اللقاء أن تلقى ربك بعملك. وقيل أي تلاقي كتاب عملك، لان العمل قد انقضى ولهذا قال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ}.
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} وهو المؤمن {فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً} لا مناقشة فيه. كذا روى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حوسب يوم القيامة عذب قالت: فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً} فقال: ليس ذاك الحساب، إنما ذلك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب» أخرجه البخاري ومسلم والترمذي.
وقال حديث حسن صحيح. {وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} أزواجه في الجنة من الحور العين مَسْرُوراً أي مغتبطا قرير العين. ويقال إنها نزلت في أبي سلمة ابن عبد الأسد، هو أول من هاجر من مكة إلى المدينة.
وقيل: إلى أهله الذين كانوا له في الدنيا، ليخبرهم بخلاصه وسلامته. والأول قول قتادة. أي إلى أهله الذين قد أعدهم الله له في الجنة.


{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)}
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} نزلت في الأسود بن عبد الأسد أخي أبي سلمة قاله ابن عباس. ثم هي عامة في كل مؤمن وكافر. قال ابن عباس: يمد يده اليمنى ليأخذ كتابه فيجذبه ملك، فيخلع يمينه، فيأخذ كتابه بشماله من وراء ظهره.
وقال قتادة ومقاتل: يفك ألواح صدره وعظامه ثم تدخل يده وتخرج من ظهره، فيأخذ كتابه كذلك. {فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً} أي بالهلاك فيقول: يا ويلاه، يا ثبوراه. {وَيَصْلى سَعِيراً} أي ويدخل النار حتى يصلى بحرها. وقرأ الحرميان وابن عامر والكسائي {ويصلى} بضم الياء وفتح الصاد، وتشديد اللام، كقوله تعالى: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] وقوله: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94]. الباقون وَيَصْلى بفتح الياء مخففا، فعل لازم غير متعد، لقوله: {إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] وقوله: {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى} [الأعلى: 12] وقوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين: 16]. وقراءة ثالثة رواها أبان عن عاصم وخارجة عن نافع وإسماعيل المكي عن ابن كثير {ويصلى} بضم الياء وإسكان الصاد وفتح اللام مخففا، كما قرئ {وسيصلون} بضم الياء، وكذلك في الغاشية قد قرئ أيضا: تَصْلى ناراً وهما لغتان صلى وأصلى، كقوله: نزل وأنزل. {إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ} أي في الدنيا {مَسْرُوراً} قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ}. قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه. فقال: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} أي لن يرجع حيا مبعوثا فيحاسب، ثم يثاب أو يعاقب. يقال: حار يحور إذا رجع، قال لبيد:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه *** يحور رمادا بعد إذا هو ساطع
وقال عكرمة وداود بن أبي هند، يحور كلمة بالحبشية، ومعناها يرجع. ويجوز أن تتفق الكلمتان فإنهما كلمة اشتقاق، ومنه الخبز الحوارى، لأنه يرجع إلى البياض.
وقال ابن عباس: ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حوري، أي ارجعي إلي، فالحور في كلام العرب الرجوع، ومنه قوله عليه السلام: «اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور» يعني: من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، وكذلك الحور بالضم.
وفي المثل: حور في محارة أي نقصان في نقصان. يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر، قال الشاعر:
واستعجلوا عن خفيف المضغ فازدردوا *** والذم يبقى وزاد القوم في حور
والحور أيضا: الاسم من قولك: طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا، أي ما ردت شيئا من الدقيق. والحور أيضا الهلكة، قال الراجز:
في بئر لا حور سرى ولا شعر ***
قال أبو عبيدة: أي بئر حور، ولا زائدة. وروى: «بعد الكون» ومعناه من انتشار الامر بعد تمامه. وسيل معمر عن الحور بعد الكون، فقال: هو الكنتي. فقال له عبد الرزاق: وما الكنتي؟ فقال: الرجل يكون صالحا ثم يتحول رجل سوء. قال أبو عمرو: يقال للرجل إذا شاخ: كنتي، كأنه نسب إلى قوله: كنت في شبابي كذا. قال:
فأصبحت كنتيا وأصبحت عاجنا *** وشر خصال المرء كنت وعاجن
عجن الرجل: إذا نهض معتمدا على الأرض من الكبر.
وقال ابن الاعرابي: الكنتي: هو الذي يقول: كنت شابا، وكنت شجاعا، والكاني هو الذي يقول: كان لي مال وكنت أهب، وكان لي خيل وكنت أركب. قوله تعالى: {بَلى} أي ليس الامر كما ظن، بل يحور إلينا ويرجع. {إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً} قبل أن يخلقه، عالما بأن مرجعه إليه.
وقيل: بلى ليحورن وليرجعن. ثم استأنف فقال: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً من يوم خلقه إلى أن بعثه.
وقيل: عالما بما سبق له من الشقاء والسعادة.

1 | 2